يحيى الحمادي
يحيى الحمادي
فصلٌ مِن عذابات المارد
الساعة 08:10 صباحاً

مِن تناهيد شيخ الأحرار (عبدالله الحكيمي)، وقد أغرَقَتهُ الديونُ وأنهكَته الغربةُ، وهو يعمل على طباعة صحيفة (السلام) التي أسسها في بريطانيا، وكانت الصوتَ الوحيدَ الذي لملم الجراح وأعاد الأنفاس بعد أن كان اليأسُ قد بلغ بالثوار كل مبلغ بعد فشل ثورة 48 واقتياد أغلب ثوارها إلى السجون وساحات الإعدام، مِن تناهيدِهِ ومِن وجعه العظيم وهو يكافح مِن أجل شعبه ووطنه ثم لا يُقَابَلُ مِن أبناء وطنه إلا بالعداء والأذى. 
مِن حَسرته بعد أن خسر كل ما يملك في سبيل قضيته، يقول في رسالةٍ بعث بها إلى صديقه المناضل شاهر عبدالرحمن العريقي: (وأُقسم لك بالله وبكتابه العزيز, ودِينهِ القويم, وبما لي من إنسانية ومروءة، إنها لتمضي عليّ الأربعة والخمسة والثمانية أيام لا أملك فيها قيمة رغيف الخبز أو حبة الملح, ولا أستطيع أن أشتري لي "شميزًا" أستر به بدني, وكل هذا في سبيل الفضيلة والإنسانية والعاطفة على هذه الأمة التي تُعادِي نفسَها وتقف حجرةَ عثرة في سبيل كل مخلص لها).
مِن نضال الحكيمي إلى وَجِيبِ قلبِ رفيقِهِ الدامي (الزبيري) بعد أن  رَفَضَت كل الدول استقبالَه، وحَطَّ أخيرًا في باكستان بتوصية مِن مسؤول عربي، ومِن أوجاع شتاتِهِ وهو يطوف شوارع باكستان حاملًا الأقفال التي كان يبيعها في سبيل لقمة عيشه، وفي سبيل إيصال صوته إلى شعبه، ثم إلى رعشةِ جسده الذاوي وهو يسقط مضرجًا بدمائه في (بَرَط)، برصاص مَن سَمّاهم مولانا البردّوني بـ "الطِّين العَمِيل" .
ومِن جراح أبي الأحرار إلى اهتزاز بَصَرِ الشهيد (الحَورَش) وهو يتخبط في غبار الحرب في صنعاء على وقع انكسار الانتفاضة، ثم إلى ارتعاد جسده النحيل المنهك وهو يقتاد إلى (حجة) مقيدًا، ثم إلى غبنه على شبابه وكفاحه الذي لم يَلقَ مَن يُصِيخ إليه، ثم إلى حُرقة فؤاده وهو يسمع الجماهير تلعنه في ساحة الإعدام، وهو ينظر إليهم بِحِلمِ أبٍ وصَبرِ نَبيٍّ قائلًا: (يا شعبنا العظيم..  متى تصحو؟!.. كلما ارتفعنا بك شِبرًا سقطتَ ذراعا)!
مِن انكسار الحورش إلى ارتِساف القاضي  (الإرياني) ورفاقِه وهم يُنقَلُونَ من سجنٍ إلى سجن بين المحافظات مَشيًا على الأقدام، وكل خمسةٍ في سلسلة واحدة، والجماهير ترميهم بالقاذورات والألفاظ البذيئة على امتداد الطريق، ليس إلا لأنهم "دستوريون" ويحاولون تحرير شعبهم والخروج به من قمقم الإمامة!.
ومنه إلى هُموم (الثلايا) وهو يُقتادُ مُكبّلًا  إلى قصر الإمام في (تعز) بعد فشل ثورة 55، ثم مِن حَسرَتِهِ في ساحة الإعدام، وهو يحملق في عيون الناس الذين قَدَّمَ روحَه في سبيل انعتاقهم وتحررهم، بينما هم يهتفون بموته. 
ومِن ذهول الثلايا إلى أَرَقِ  (السَّلّال) في زنزانته المنفردة، في سجن من سجون (حجة) الرهيبة، ومن معاناته المريرة وهو يكافح من أجل تحرير نفسه ووطنه من الكهنوت الإمامي المقيت. 
ومِنه  إلى صوت (علي عبدالمغني) وهو يمتزجُ إعياءً ونَشوة، والدم يسيل مِن أذنيه صبيحة الثورة، ثم إلى انتفاضِه من  كرسيه لنداء الواجب وإرساء الثورة، وإخماد التمرد، ثم إلى نبضاته الأخيرة وهو يسقط شهيدًا في مأرب. 
مِن عذاباتِ هؤلاء ورفاقهم انبلج فجرُ أيلولَ الخالد، فاتحًا باب الحياةِ أمام شعبٍ قُبِرَ حَيًّا، وذاق من الظلم والإفقار ما لم يذقه شعبٌ غيرُه، مِن جراح هؤلاء دخل الضوء، وسيستمر حتى تغرب مِن مَشرِفِها.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر