محمد العلائي
محمد العلائي
عصبية "نَسَب" لا عصبية "أرض"
الساعة 08:46 مساءاً

إذا كان في الإمامة الزيدية عصبية، فهي بالدرجة الأولى "عصبية نَسَب" لا "عصبية مكان/ أرض/ إقليم". 
نقصد هنا "العصبية" بمعناها الأخلاقي السلبي الجدير بالادانة واللوم من وجهة نظر الوطنية الجمهورية الحديثة.
النَّسب العلوي الفاطمي هو نقطة الارتكاز في العصبية الوحيدة التي تمتلك أساسا منهجيا صريحا في المتن النظري الزيدي وفي الممارسة التاريخية للإمامة. 
نذكِّر بهذه الحقيقة في مواجهة واحدة من أهم الأفكار المضلّلة التي تقوم عليها آيديولوجية رفض "هيمنة" ما تسمَّى بـ "الهضبة". مع أننا لا نعلم إلى ماذا يجب أن تشير كلمة "هضبة"، فالاستعمال الراهن لهذه الكلمة سياسي مُغْرِض أكثر منه جغرافي علمي، وشتَّان بين المضمونين السياسي والجغرافي للكلمة نفسها. 
أمّا الأيديولوجيا المشار إليها، فهي عقيدة احتجاج ورفضٍ تمّ اختلاقها حديثاً ضد المركز ومحيطه الجغرافي، وذلك بناءً على جملة من المزاعم والمبالغات التاريخية العامّية. ورغم تأثيرها المزعج في مجرى الأحداث، إلا أنها لم تخضع حتى الآن للتصحيح أو النقد.
من هذه المزاعم القول بأن "الهضبة" هي المنطقة التي ظلَّتْ وحدها تحكم وتهيمن على اليمن، من خلال الإمامة الزيدية، على مدى ألف ومئة عام! 
خطورة هذا الزعم تكمن، أولاً، في كونه يُستخدم اليوم، بصيغ كثيرة، لاذكاء مشاعر الكراهية والتشظّي على الصعيد الوطني، وتكمن خطورته، ثانياً، في كونه ينطوي على عنقود متكامل من الأباطيل التي تستوجب التعليق:
أولاً، الإمامة الزيدية لم تحكم اليمن -كما نعرفه- باستمرار على مدى ألف ومئة عام، ولا حتى مئة عام متَّصلة. الاستمرارية المنتظمة أكذوبة، سواء الاستمرارية في حكم اليمن كاملاً أو حتى الاستمرارية في حكم جزء من اليمن. 
اليمن نفسه مصمَّم على نفي الاستمرارية السياسية ومقاومتها بكل السُبل. وهي خاصية ربما تفسِّر الحضور الباهت للحضارة اليمنية، رغم عراقتها، على مسرح الحضارات العالمية العظيمة.
ارجعوا لتاريخ اليمن خلال الألف ومئة عام، وسترون عدداً هائلاً من الممالك والدول اليمنية والأجنبية والسلطنات، بعضها أقيمتْ في مناطق مختلفة من اليمن بالتزامن مع الإمامة في شمال الشمال الشمال، وبعضها امتد نفوذه إلى اليمن كاملاً.
وهكذا، يَدخُل في نطاق الألف ومئة عام، إلى جانب الإمامة، سلسلة متناقضة من الدول والممالك: اليعفريين والزياديين والصليحيين والنجاحيين والأيوبيين والحاتميين والزيعيين والأيوبيين والرسوليين والطاهريين والمماليك والعثمانيين والإنجليز. 
ثانياً، الإمامة الزيدية حكمت في أوقات وعصور مختلفة، وعلى نطاقات جغرافية متباينة الحجم والاتساع، وتخللتها انقطاعات وانكماش وضعف، لكن هذا الحكم لم يكن في الغالب حكماً شبيهاً بالدولة. ناهيك عن أن نفوذ الأئمة الزيديين في معظم الألف ومئة عام لم يتجاوز المرتفعات الشمالية والغربية إلا لفترات معدودة، وفي بعض الأوقات كان يظهر أئمة متنافسون يتقاسمون النفوذ الديني وحق الجباية داخل هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة التي تسمَّى اليوم لَمْزَاً "الهضبة" وأحياناً "شمال الشمال".
ثالثاً، وهذا هو المهم، لا يمكن الموافقة على أن حكم الأئمة الزيديين، أو فلنقل نفوذهم، كان يعبِّر جوهرياً عن ما تسمَّى "الهضبة" أو يعكس بالضبط مصالح جميع أهلها. صحيح أن الإمامة الزيدية في اليمن، لأسباب يصعب شرحها الآن، اعتادت الانطلاق من نقاط مكانية متنوعة في إطار "الهضبة"، ولكن هذه الحركة كانت تنطلق دائماً بدعوى إحقاق حقّ الفاطميين في الحكم، وليس إحقاق حق "الهضبة" أو أيّ منطقة أخرى! وليس إحقاق حق الفاطميين الزيديين في حكم اليمن فحسب، بل إن الحركة الإمامية الزيدية كانت، من الناحية النظرية، ترفع الادعاء بالحق في حكم العالم الإسلامي. (هذا الملمح التاريخي موجود حتى اليوم. راجعوا مثلاً تغريدة لـ حسين العزي يقول فيها: نحن قادة الاسلام).
نقول هذا لأن غُلاة المؤمنين بالعقيدة التي تزعم أن "الهضبة بيت الدّاء"، لا يكتفون بمحاسبة "الهضبة" على ما سلف من تاريخ الأئمة، بل يضمُّون التاريخ الجمهوري إلى التاريخ الإمامي، تاريخ الألف ومئة عام، ويفضّلون التعامل مع التاريخين على أنهما تاريخ واحد متّصل، يطلقون عليه، دون اعتبار لأي شيء، اسم "تاريخ الهيمنة"!
مع أنه إذا كانت الإمامة مصدراً للضرر والشرّ الخالص، فمضرَّتها تطال المحيطين بمركز انطلاقها أكثر وأطول مدّة من المناطق النائية عن هذا المركز. ومع ذلك، فحتى الهاشميين الفاطميين الزيديين، ربما لكثرة عددهم ولأسباب متعلقة بالموارد الضعيفة في اليمن، لم يكونوا كلهم يحصلون على حصص كافية من المصالح والمكانة والنفوذ، بحيث يتحقق لهم جميعاً درجة متقاربة من الرضا والتلاحم. ولهذا كانوا ينقسمون طوال الوقت إلى سلطة وسلطة مضادة انطلاقاً من المبدأ الزيدي الهادوي نفسه الذي يعطيهم، من الناحية النظرية، حقوق سياسية متساوية على أساس فكرة النَّسَب الفاطمي. واليوم من الصعب القول أن هؤلاء على قلب رجل واحد. 
بالنسبة لي شخصياً أرفض أيضاً الأيديولوجية المعادية للهاشميين جميعهم دون استثناء. فليس غرضي تبرئة أرض لإدانة نَسَب. وإذ نقول إن الإمامة الزيدية عصبية نَسَب في المقام الأول، فنحن نقول بالضبط ما تقوله النظرية والتجربة الزيدية على حدٍّ سواء، إنما لا يعني هذا أن اللوم بجريرة ما فعلته الإمامة -كسلطة- يجب أن يقع على كل المشمولين بهذا النَّسَب، بل يجب أن يقتصر فقط على الفاعلين سياسياً لصالح الإمامة بدافع من الشعور بالتضامن على أساس النَّسَب.
إنني في هذا الجانب، وبكل اطمئنان وصراحة، مع الفكرة الجمهورية فقط، ضد الفكرة الإمامية الثيوقراطية بجميع صورها ومظاهر وجودها التاريخي القديم والحديث.
*المصدرأونلاين

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر