عبدالسلام القيسي
عبدالسلام القيسي
مأرب.. المعجزة والاستثناء
الساعة 07:51 مساءاً

قديماً، والعالم يعيش غباريته كانت مأرب جنة، والسنة الكونية باعدت بين الناس لقلة البشرية أنذاك كانت مأرب محتشدة حول نفسها حتى نسي المأربي خطواته، لذا حدثتنا السماء عن أرض سبأ، والقوم الذين طلبوا من الله أن يباعد بين أسفارهم ولهذا معنى وحيد ويعني أن مأرب من مدنيتها وتقاربها والظل الذي ترسله أشجار الجنان جعلت منهم قليلي الخطوات، تكاد الشمس تختفي من الظلال ولذا كانوا يعبدون الشمس التي يريدونها أن تظل دوماً، ألا تغادر أرض سبأ، وقدموا لها القرابين، ويقودني هذا الرأي الذي هو رأيي لاعتبار مأرب خارقة في المجال الإنساني وتجاوزت القدرة البشرية، والوضع الطبيعي الذي يعرفه كل الناس من قبل ومن بعد حتى.
نعيم مأرب الذي ذكره القرآن تجاوز الشيء المتعارف عليه من الفراديس، عندما يشتاق الانسان للأسفار البعيدة فهو يشتاق للذهاب والأياب والبحث عن الأشياء التي تتواجد أجمعها في مأرب، أي أن مأرب كانت متوفرة وموفور فيها كل الضروريات والكماليات من حاجات الانسان، ووجد المأربي نفسه لا يغادر، هذه المملكة، مملكة سبأ لطلب أي شيء والأشياء التي تنقص سبأ تمر من وسط سبأ كالتوابل واللبان والبخور والحرير وأشياء أخرى، أي كان السبئي في جنة نعيم، وأكثر!
في أحايين كثيرة يقتلك النعيم، من الملل، فذات مرة كانا صديقان أصغر مني يتناقشان ولا زلت في البلاد بأعلى تلة القرية فيقول أحدهما للآخر : ليتني أملك ملياري دولار ..! يقطع الثاني كلامه : لا والله .. لا أريد .. يقوم الأول بشتمه ويتهمه بحب الجدال فلا أحد يكره المال ليفسر له الذي رفض المليارات بطفولية بحتة .. براءة .. ولكن فلسفته عميقة، فاجأني بقوله: إذا أمتلكت المبلغ الذي بإمكانه أن يحقق لي كل ما تتمناه بلحظة فسأكره كل شيء.. وهنا القول الحكيم.. أن يجد المرء نفسه محاطاً بالنعيم، ويبدأ بملل الأشياء كلها، وهذا برأيي ما حدث لمملكة السبئي، وشعب سبأ، من ملل النعيم وفائض العيش، وتمنى مخاطباً الإله الذي يعبده أن يباعد بين أسفاره، فحقق له الله أمنيته.
أضاع الهدهد طريقه، أماته العطش، ووصل بلاداً يجهلها، ضاع في النعيم، وأنساه النعيم نبيه سليمان، ولذا قرر أن يذبحه، والقصة كاملة في الوعي الشعبي، لكن الذي ينقصه المرحلة الديمقراطية التي وصلت لها مأرب بداية من امرأة تحكم سبأ، وهذه الجزئية ليست بسيطة، في ذلك الوقت، يجب ان ننحني وأن نجبل هذه التوليفة الديمقراطية وما كانت عليه اليمن قبل الميلاد بدهر .. تحكمهم امرأة .. يا للعلو .. فرغم التسارع الحداثي وحقوق المرأة لم يصل العالم أن تتقلده امرأة الا في حالات خاصة فماذا في اليمن ومتى وكيف حدث ذلك؟ قبل الميلاد.
نتقاتل الآن .. ومنذ ألف سنة ويزيد .. كي نحتكم للصندوق وشوروية الأمر .. وننسى أن اليمن حكمت بالشورى قبل أربعة آلاف سنة.
أول مجلس حكماء كان في اليمن .. إعجاز، فالعالم كان لا زال يرى النساء خطيئة ويرى توارث النبوة حتى، أنذاك حتى النبوة كانت متوارثة، نبوة السماء، ولكن لمأرب شأن آخر.
لنعد الى سلميان، النبي الذي يوحى اليه، ويجيد لغة كل شيء، يكلم الطير ويسير الجن كما شاء بل ويحدثهم ويخاطب النمل حتى.
ذلك النبي لم يصدق أن ثمة جنة نعيم في جنوبه، وهو الخارق بملكه للعادة قرر التأكد واستحضار الحقيقة التي لم يصدقها حقيقة أن ثمة عرشاً اعظم من ملكه وأن ثمة جنة يمنية في بلاد بلا أنهار تفوق بآلاف المرات جنان الشام ذات الأنهار والينابيع الغفيرة، هنا نستحضر مدى التطور الحضاري لمأرب، هنا تتبدى لنا الصورة المخيفة لمأرب، تخيفك أن تكتشف ما بلغته هذه المدينة، بذلك الميقات.
وهنا تبدأ الحقيقة المخيفة، أن مأرب إعجاز حقيقي في الأرض وأن كل شيء لا يمكنه أن يقنع ملكة سبأ بنبوته ولذا لا بد له من حدث كبير، يفوق قدرة الانسان، مهما بلغ من العلم، والمشترك الوحيد مع الإله، الذي لا يفكر الناس به، والى اللحظة، فما بالكم أنذاك وهو نقل العرش، والعرش ليس مجرد كرسي، بل إيوان كامل من حجارة البلَق، مبنى له وزن الجبال، ونقله من مأرب الى حيث بلد مملكته.
أي: كل شيء حدث في مأرب، الصخر والحديد، والماس والنعيم، والأشياء المعهودة واحياء المرضى كل شيء يتوفر في مأرب ولذا كان لصاحب الكتاب أن يأتي بالعرش كي يبهر بلقيس بقدرته الخارقة، فالشيء من نفسه،واذا كانت حضارة سبأ قليلة وهينة سيكتفي بمعجزة هينة فالمقصد من مطلب سليمان للعرش ليس المباهاة بل لتصديقه وسيكتفي بشفاء مريض لو انها ستقتنع وهنا تظهر جلية تطور مأرب الطبي، فغزارة الناس في سبأ، وكثرتهم، توحي أنهم وصلوا الى القدرة العليا للشفاء والا لما أثبت المختصون أن شعب سبأ كان بين أربعين وستين مليونا، ويدل هذا الرقم على غياب الأوبئة والأمراض الفتاكة التي كانت سبب النقص الحاد في التأريخ القديم للبشرية، ولا زالت الى اللحظة.
في معبد أوام وأنت تشاهد الأعمدة التي تصيبك بالجنون، وهي من حجر واحد، تعتقد أن مأرب وصلت الى حد اختراع مكائن قطع الأحجار بالطريقة الحديثة، فمن يستطيع أن يقطع حجرة واحدة بطول اثنا عشر متراً بل وأكثر وبسُمك واحد وكل عمود بحجم نفسه ولم يزد عليه ولو بسنت واحد وكذلك طريقة البناء والنقش وقطع الأحجار لا تنبئ أن في الأمر مهارة، ثمة شيء أعظم، وبالعلوم فقط.
في معبد بران اندثرت أجزاء منه وقامت البعثات بمهارة عالية إعادة بنائها، لكن وأنت تشاهده لأول مرة تلاحظ الفارق وتدرك أنه لا ينتمي لمهده الأول، أجزاء مستحدثة، من خلال الخشونة ورغم الدقة هناك فارق بين الدقة الحديثة والقديمة شيء كبير، يرجح لصالح الدقة القديمة، بأكثر من عشر درجات، تخيلوا!
وفي العبادة إعجاز، الشمس، والقمر، ذوات متحركة ذات فائدة، الشمس وفائدتها معروفة، والقمر ايضا، واعتمدت الوعل الذي يجلب الخير والمطر كرمزية للتفوق وهذا يعني نبوغهم في التفكير، ويدركون أن الإله لا بد أن يكون ذا قدرة وفائدة، ولم يعبدوا الأوثان التي لا تتحرك، ولا تغني من شيء أي عبدوا الذات الأولى للكون، ضوء الشمس، والقمر، فائدة الشمس والقمر.
لو تحدثنا عن السد، حسب حكاية الفأر، أي الموجودات لا تحدث إلا بسبب، ويعني استحالة انهيار السد، من المستحيلات، ولذا هدته القدرة بسبب، ومعجزة، بشيء خارق للعادة ويعني أن السد بني بمواصفات أعلى وأبعد بكثير وأقوى من مواصفات الحاضر فلو أن السد يمكن انهيار بسبب بسيط كغزارة الأمطار مثلاً لكان ذلك، ولما كانت الحكاية وكذلك حجم الدمار الهائل الذي خلفته هذه الكارث لا أعتقد أنه في مأرب هذه فقط بل كانت ممتدة وكثيفة أكثر من اليوم آلاف المرات خاصة عن حجم المهاجرين والذين كظوا العالم من كثرتهم وهم من ضحايا السد.
بدأت سبأ تضعف، قبل الانهيار، وهذا أطمع الروم بها، ومع ذلك تشير الدراسات ان معركة حدثت في نجران ودفن كامل الجيش الرومي هناك وتشير هذه الحادثة أن سبأ الضعيفة الممزقة استطاعت هزيمة روما، بلد القيصر، والتي لا تهزم، فيقودنا التفكير أن التبابعة وصلوا فعلا إلى سمرقند والصين والمغرب بحين القوة، هذا التفكير المنطقي والوارد، إذا ما كانت حدود الضعف في نجران فأين هي حدود القوة والاذهار؟ ربما في سمرقند، وأكثر.
لذا ذو القرنين الذي تحدث عنه القرآن هو السبئي، تعالوا معبد أوام وستجدون نقوشاً لقرون غير نقوش الوعول على الحجارة، يعتقد الناس أنها ترميز للوعل، وقرنيه، من تقدير شعب سبأ للوعل، وهذا يلغي كل شيء، ولكن التأمل به وتؤكده رواية القرآن ستجدون أن النقش لرأس رجل بقرنين، وهو الذي يذكره القرآن، لأن القرون رمزية للوعل، والتبابعة مؤكداً اختصوا بخوذة مقرنة لهم وحدهم تبركاً بخير الوعل، وعادة الملوك تجسيد هيئتهم بالحجارة كما أن هناك نقش آخر للوعل يظهر رأسه رأس حيوان غير الذي تكلمت بصدده.
الذي يعزز فرضية أن ذا القرنين تبع يمني معجزة السد، الذي بناه بين الناس وبين قوم يأجوج ومأجوج، والسد مهارة يمنية فقط فالدول والحضارات والامبراطوريات الكبيرة قامت على ضفاف الأنهار والبحيرات ولا يعرفون السدود ولا حاجة لهم وكان إعجاز اليمني وتفوقه في ابتكار السدود لخلو البلاد من الينابيع، والشيء من أصله ولن يستقدم الله ملكاً ينقذ الناس من بلاد الأنهار بل من حيث معجزة السد، ويعني هذا أن الطريقة التي بني منها السدان واحدة، يفشل قوم يأجوج ومأجوج في ثقب السد وأنزل الله الى معجزة كي يهدم سد مأرب، بناء واحد.
هذه بلدة فاقت كل شيء، وفازت، الحكم والنعيم، والقوة، وتجاوزت الانبياء، بل مهد المعجزات، وفي الطب، والأديان، والعلوم.
بكل شيء، كانت مأرب خارقة للعادة.
عدت من معبد آوام في الوادي، وادي سبأ، محتشداً بالتأريخ، وبالحاضر الماجد والكبير والملحمي وهناك عمود أشمخ اسمه سلطان العرادة يذود عن دنيا التأريخ والأصالة بدم قلبه وكل مأربي من مراد الجبل الى الوادي يمثل البلدة العظيمة، بعظمة سبأ، والتبابعة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر